العددان 720 – 721، أيلول – تشرين الأول 2023

المثقف والمفكر

 وزيرة الثقافة

الدكتورة لبانة مشوِّح

 

كثيراً ما تطرح على بساط البحث مسألة المثقف ودوره في زمن الحروب والأزمات، وغالباً ما يسلك النقاش مسارات تنبئ تشعباتها وما يُطرح في سياقها من أفكار بوجود إشكالية مفهومية حقيقية في منطلقاته الأساسية، أي في المفاهيم التي يُفترض أن يؤسَّس عليها لاستخلاص المفيد الـمُغني.

تكمن الإشكالية في أنّ التعاريف التي تصاغ لمصطلح «مثقف» والتي تطالعنا بها محركات البحث أغلبها مترجم منسوخ عن الفرنسية أو الإنجليزية، وهي ترجمات فات أصحابها أن مصطلحي «فكر» و«مثقف» ليسا من المترادفات التامة، وأن بينهما فروقاً دلالية لم يوليا التعمق فيها بالاً. والواقع أننا أمام مفهومين متمايزين غير متطابقين، وهو تمايز يُغيَّب أحياناً، عن قصد أو غير قصد، فيوضع المثقف في خانة المفكر، والعكس بالعكس. وقد يكون من المفيد، بل لا مناص عند التفكير في دور «المثقف»، من التمعّن في وجه التغاير هذا وإيضاح أبعاده، في سياق تحديد الأهداف والسياسات والأدوار والمسؤوليات.

يَظهر التمايز المفهومي بين المصطلحين أول ما يظهر في تباين الصيغة الصرفية لكل منهما؛ ففي حين أن مصطلح «مفكِّر» صيغ على وزن اسم الفاعل، وضِع «مثقَّف» بصيغة اسم المفعول. وشتّان بين هذا وذاك.

المثقّف شخص صقلته ثقافته، ووسّعت أفقه، ونمّت ثقته بنفسه وقدرته على التكيّف. إنه شخص قوّمت الثقافة سلوكه ووجهته.وكلما ارتقى المثقف أخلاقياً وفكرياً أصبح حراً، وأكثر شعوراً بالسعادة والرضى، وغدا قدوة لسواه.

أما المفكر فيمكن تعريفه، استناداً إلى المعاجم اللغوية، بأنه كل من يُعمِل عقله في نطاق ما، ويضع أفكاره ومعارفه ومكتشفاته، وفي أضعف الإيمان تحاليله ووجهة نظره، في خدمة البشرية، وينبري للدفاع عن قيم يؤمن بها. ولا يشعر المفكر الحق بالرضى عن نفسه إلا بمقدار الجهد الفكري الذي يبذله والأثر الذي يحدثه. إنه شخص يمتلك ميولاً أو استعداداً لممارسة نشاط أو مهنة فكرية، من مثل الفيلسوف والطبيب والمهندس والمحامي والمعلم. تلك هي الفئة التي أخرجت أوروبا من عصر الظلمات إلى عصر الأنوار. وفي القرن العشرين، برز من بين أشهر المفكرين في العالم أدباء وفنانون وعلماء من أمثال الفلاسفة جوليان بنداوجان بول سارتر وريمون أرون وميشيل فوكو وجورج إدوارد مور وبرتراند راسل، وروائيون من أمثال ألبير كامو وأندريه مالرو وليون تولستوي ومكسيم غوركي، وعلماء كألبير أينشتاين وماري كوري وإسحق نيوتن ونوام تشومسكي. فرضوا جميعاً أنفسهم وأثروا الحياة الفكرية في عصرهم، لا بل نقلوا البشرية إلى مستوى آخر.لقد كانوا مثقفين مفكرين.

واليوم ثمة متغيرات كثيرة يعيشها عالمنا ليس أقلها التبدلات المناخية، والتغيرات السلوكية، والانحرافات الفكرية، وسيطرة الفردية النرجسية،وتنامي التطرف والإرهاب كشكل آخر من أشكال البربرية، إضافة إلى التطور التقني الهائل، وابتكارات الذكاء الصنعي التي تجاوزت حدود المعقول،وأسبقية العالم الافتراضي على عالم الواقع، وسطوة وسائل الإعلام، ومواقع التواصل الاجتماعي كلية الوجود…إلخ. تحديات على المفكرين التمعن في أبعادها والبحث الجاد عن أنجع السبل لدرء مخاطرها التي تقوّض أسس الحضارة الثقافية وتعبث بقيمها وتشوّه مثلها الأخلاقية.

في كل الأزمان والعصور،يؤدي أفول الفكر وانكفاء المفكرين إلى أن يطفو المشعوذون على السطح كالطحالب والعوالق، كائنات عديمة الفائدة، تكبّل وتعيق التقدم. لذا فإنَّ التحدي الأكبر الذي يواجه الإنسانية اليوم يكمن في إيجاد البنية المجتمعية القادرة على توليد رأس المال الفكري.

 

 

اضغط على الرابط أدناه لقراءة العدد كاملاً:

(العددان 720 – 721، أيلول – تشرين الأول 2023). pdf