التراث الشعبي – العدد 23

آراد… قِبلة العِباد

      وزيرة الثقافة

الدكتورة لبانة مشوِّح

كان لنا في الخامس من شهر تموز لقاء مميز بكل المقاييس مع مِهْرجان للتراث أقامته وزارة الثقافة في جزيرة أرواد، وهي جزيرة تحتلّ مكانة خاصة على الخارطة التراثية السورية. لا تزيد مساحتها على العشرين هكتاراً، لكنها كانت يوماً مملكة آراد، الملجأ المزدهر المقصود المرهوب الجانب. تعاقبت عليها الحضارات وها هي اليوم بقلاعها وبرجها وسورها الضخم تختزل التاريخ، وتشهد على عظمة هذا الوطن الذي حمل الحضارة إلى أصقاع المعمورة…

أرواد صورة مصغّرة عن سورية التي تمتلك إرثاً تراثياً عظيما يمتاز بالأصالة، فيعكس عمق جذورنا وقوة انتمائنا، إرثاً سمته التنوّع وتعدد المشارب، وميزته الإبداع، فلا يملّ حَمَلَتُهُ من ابتكار أدوات لتطويره، لأن في السكون موتاً واندثاراً، ولم تعهدنا الحياة إلا شعباً حيّاً حاملاً للحضارة بمُتْقَنِ العمل، وانفتاح الفكر، ونبل القيم.

إنّ تنوّعنا التراثي وثراءَنا الثقافي ثروة هائلة قلّ مثيلها في العالم. وهي غنية المنبع، وطنية النبض والملامح والهوية. وهذه الثروة نقطة قوة، لا بل هي نعمة أصبح لزاماً علينا أن نحسن استثمارها، وإلا غدت عبئاً ينوء به كاهلنا فتتحوّل إلى نقمة.

وتراثنا اللامادي مكوِّن أساسي من مكونات هذا التراث، وهو جزءٌ مهم من ذاكرتنا الشعبية والوطنية، ويعدّ قيمة إنسانية، لا بل ثروة إنسانية لا تقدّر بثمن، من واجبنا حمايتها وصونها. وقد بدأ الاهتمام بالتراث اللامادي عموماً على المستوى العالمي منذ العقدين الماضيين، من خلال التعريف به والدعوة إلى الاهتمام به وحفظه وتدوينه وتوثيقه وحمايته من الضياع والنسيان والإهمال.
ومؤخراً أُحدِثت في وزارة الثقافة مديرية التراث اللامادي لتحل محلّ مديرية التراث الشعبي، وتضطلع بمهام أشمل وأدق، وتكون حاملاً لمشروع حماية وصون التراث اللامادي بحصر عناصره وتوثيقها وتسجيلها وفق معايير وطنية، ورعاية حامليها وتقديم الدعم المعنوي والمادي اللازم لهم، والحرص على استدامتها وضمان انتقالها إلى الأجيال التالية، ومن ثمّ تثبيت حقنا فيها بتسجيلها على لائحة التراث الإنساني العالمي.

وأصالة التراث الثقافي اللامادي لا تعني أنّه شيء جامد، بل هو نتاج تجارب مترا كمة وثمرة مهارات يدوية ونتاجات شفهية عاشها الإنسان متفاعلاً فيها مع محيطه الاجتماعي والثقافي. وهذا تحديداً ما لمسناه لدى زيارتنا لموقعين لبناء السفن؛ إذ تعيد الأيادي الماهرة بصبر وأناة كتابة تاريخ مجيد لسفن من خشب تمخر عباب البحر، تصل الشطآن بالشطآن، تمدّ جسور التلاقي بين الشعوب، لتعود محملة بثمار الخير الوفير. وقد رأينا بأمّ العين كيف يتطوّر هذا التراث العريق دون أن يفقد أصالته وتفرّده.

إنّ التراث الثقافي اللاماديّ منظومة متكاملة شكلت طبيعة الحياة اليومية التي قامت عليها المجتمعات من عادات وتقاليد ومهارات متوارثة وأشكال التعبير الشفوي والمرويات الصوتية والموسيقية والأساطير والطقوس وفنون الطبخ والملبس. وجزيرة أرواد غنية جداً بهذا الموروث الثقافي، لا بل هي متفرّدة في تراثها بكل مكوّناته. والحرص على رصد هذا التراث وتوثيقه ونقله إلى الأجيال القادمة إنما ينبع أولاً من الحرص على كل مكونات الهوية الثقافية الوطنية، وثانياً من إدراك ضرورة حسن استثماره وتوظيفه التوظيف الأمثل في خدمة التنمية المستدامة. وإننا إذ نسعى جاهدين لحماية وصون تراثنا بكل مكوِّناته، ندرك ضرورة توظيفه في عملية التنمية المجتمعية لتصبح الثقافة رافداً من روافد الاقتصاد الوطني وعاملَ تقدّمٍ وانفتاح، لا تحجُّر وتقوقع وانغلاق.
لأرواد وأهلِها الطيبين كل المحبة…

لأرضها السلام والأمان، ولبحرها الخير الوفير، ولسمائها الصفاء والنقاء….

 

 

(التراث الشعبي – العدد 23) pdf.