العدد المزدوج 728-729، أيار- حزيران 2024م

من دون الثقافة

وزيرة الثقافة

الدكتورة لبانة مشوِّح

إنَّ أجمل المقولات تلك التي تتجاوز حدود دلالاتها الحرفية، فتحفِّز على التأمل خارج أطر كلماتها الضيقة. ومن تلك المقولات أن الإنسان من دون الفنِّ يموت ضجراً. وهي مقولة، إذا ما اقتصر الإدراك على حرفيَّتها، توحي بأن الفنَّ يفيد في التسلية والترفيه ليس إلّا.
هذا التسطيح لوظائف الفنون؛ والجهل بغاياتها وعميق أثرها النفسي والإدراكي والفكري والثقافي لم يخطر حتماً في بال قائلها جان دوبوفيه، وإلّا لأحجم وامتنع. فدوبوفيه هذا شخصية تعدّ من أبرز وجوه المشهد الفني المثيرة للجدل في القرن العشرين. هو رسَّام مبدع وكاتب ومفكِّر، ابتكر«الفنَّ الخام» وأطلق نظرية النقد الفني الراديكالي المتحرِّر من القواعد الأكاديمية الصارمة، والداعي إلى تعبيرٍ فنيٍّ بلا قواعد أو نظم محددة، فنٍّ خام لا«تلوثه» أيَّةُ ثقافة فنية، محرَّر من أي إرث أو تنميط ثقافي. فن بسيط متواضع يمارسه الإنسان العادي سلوكاً يومياً ملازماً له، هواءً يتنفَّسه، دم ينساب في عروقه يوقد الذهن ويحفِّز الاستجابة.
لا يملك المرء عند التأمل في هذه المقولة إلاَّ أن يستعرض أنواع الفنون التي تلوِّن الحياة بأريج الفرح؛ تثير في النفوس الشجون؛ توقد نار الحنين؛ تستنفر الجوارح وتغذي في الجنبات جذوة الحياة؛ الفنون التي تُنبت الجذور في القلوب، تفتح نوافذ الأمل وتشحذ الهمم.
وإذا كان هذا حال الفنون وما هي إلاَّ جزئية في الفعل الثقافي الكليِّ، فما القول في الثقافة؟ من دون الثقافة يقبع الإنسان وحيداً في حفرة مظلمة؛ يغرق بجهله بنفسه وبالآخر. من دون الثقافة تتيه العقول في لجِّ العصبية والتخلُّف، فينتفي الحوار، وتغيب المحاكمة المنطقية، وتسود الأحكام القطعية.
إنسان بلا ثقافة شجرة جافّة لا ظلّ لها ولا ثمار… وشعب بلا ثقافة جذور يابسة وحضارة آفلة.