التراث الشعبي – العدد 21

التراث الشعبي والتنمية المستدامة

وزيرة الثقافة

الدكتورة لبانة مشوِّح

يحتل مفهوم «التراث اللامادي» يوماً بعد يوم مكانة متعاظمة في أولويات العمل المجتمعي الهادف إلى إبراز قيم المجتمعات الإنسانية الثقافية. يدلّ هذا المصطلح، بحسب منظمة اليونسكو، على جملة الممارسات، وأساليب التعبير، والمهارات التي تمتلكها الجماعات البشرية، وفي بعض الأحيان الأفراد، ويعتبرونها جزءاً لا يتجزّأ من تراثهم الثقافي. يُعرف «التراث اللامادي» أيضاً بمسمى آخر هو «التراث الثقافي الحيّ»، ويشتمل على العادات والتقاليد وأساليب التعبير الشفهي، بما في ذلك اللغة التي تعدّ أحد وسائل انتقال الفكر والمعارف والمهارات، أي التراث الثقافي اللامادي، إضافة إلى فنون العرض، والممارسات الاجتماعية، والطقوس والعادات الاحتفالية، والمعارف والممارسات ذات الصلة بالطبيعة والكون، والمهارات المرتبطة بالحِرف التقليدية.

مما لا شك فيه أن مفهوم «التراث اللامادي» يشوبه اللبس والإبهام في كثير من الأحيان بالنسبة إلى البعض ممن يختلط في ذهنه المادي باللامادي، إذ يصعب على هؤلاء التمييز بين مهارة الحرفيّ وأدواته من جهة، والمادة التي يُنتِجها من جهة أخرى. هناك لبس في الأذهان بين مفهوم الممارسة الإنسانية فناً وحرفة منتجة للمادة ومتجسّدة فيها من جهة، والمادة نفسها من جهة أخرى؛ بين المصنوع، والمهارات التي أبدعته؛ بين المُنتَج وآليات الإنتاج بكل مكوناتها وعناصرها؛ بين الطقس والتاريخ والعقائد والمعتقدات التي أنتجته، والعناصر التي يقوم عليها ويُظهَّر بها. يُعاني مصطلح التراث اللامادي بكل بساطة خلطاً بين العنصر المادي والمهارات والممارسات والموروث الثقافي الذي يكمن خلف تكوينه.

إنّ اللبس الإشكالي الذي يعتري مفهوم التراث اللامادي مردّه المصطلح نفسه الذي يحمل صفة اللامادية، تلك الصفة المجرّدة عن كل ما هو حسّيّ، وهذا في حدّ ذاته يُناقِض مفهوم التراث الشعبيّ الذي يتجسّد ألواناً وأشكالاً ورموزاً وأمثالاً وطقوساً وعادات اجتماعية، ولعلّ هذا أحد الأسباب الرئيسية للتداخل الكبير في الأذهان بين ما هو مادي وما هو لامادي من عناصر التراث.

وأياً كان الأمر، فالعلاقة بين التراث المادي والتراث اللامادي تتجاوز حدود التداخل لتصل إلى حدّ التكامل والتأثير المتبادل. فالتراث المادي العمراني يشكّل الإطار والسياق التاريخي لإنتاج التراث اللامادي، وهذا الأخير يحيي ذاكرة المكان الذي يحتضنه بكل تفاصيلها.

وبحسب اليونسكو، فإن التراث اللامادي هو أحد العوامل الضامنة للتنمية المستدامة. لكنّ أصواتاً خرجت مؤخراً لتشكِّك في هذا المنطق، معتبرة أنّ مفهوم التراث الثقافي اللامادي سلاح ذو حدّين، كونه، على حدّ زعم أصحاب هذا الرأي، لا يقدّم إدارة جيدة للمورد، أي للتراث أو للثقافة، بل تسبّب، على العكس من ذلك، في إضعاف القطاع السياحي والإضرار به، وهو – أي القطاع السياحي- القطاع النموذجي الوحيد المعروف الذي يخدم التراث الثقافي المادي ويطوّره.

إنّ أصحاب هذا الرأي المعادي للتراث الثقافي اللامادي ينسون أو يتناسون أهمية التنوّع الثقافي الذي يعدّ أحد الركائز الرئيسية للسياحة وأحد أهم عوامل الجذب فيها. وهو لا يصرف الأنظار عن التراث المادي، بل يبرزه ويعزّز قيمته التاريخية، إذ يتكاملان في كثير من الأحيان، فيُخرج الأثر المادي من حالة الجمود ليشكّلا لوحةً حيّةً، فيتحوّل الأثر المادي من مجرّد أثر كان يوماً مسرحاً لأحداث غابرة، إلى إطار يضجّ بالحياة، يحتضن أنشطةً إنسانيةً تبعث الروح في المكان، وتنقل الزائر عبر الزمان إلى عالم متكامل المكوّنات، تختلط فيه المحسوسات على أنواعها. فأي خدمة يؤديها إحياء التراث اللامادي للسياحة خصوصاً وللتنمية المستدامة عموماً، وأي فائدة مجتمعية يمكن أن تنتج عن حسن إدارة عملية الدمج هذه بين التراث المادي والتراث اللامادي!

 

 

(التراث الشعبي – العدد 21) pdf.