ثقافة أم ثقافات
وزيرة الثقافة
الدكتورة لبانة مشوِّح
لعلّ مصطلح الثقافة من أكثر المصطلحات انفتاحاً على التأويل؛ فعلى الرغم من أنّ المفهوم نفسه يحظى بإجماع عام، إلا أنّ البحوث التي تتناول القيمة الوظيفية للثقافة عموماً، أو للثقافات كلّ على حدة، تفاوتت في أهميتها وعمق تأثيرها، وتبلورت واكتملت في المجتمعات التي تطوّر فيها علم الإثنيات أو علم الأعراق. وبرزت الدراسات في حقل الأنثروبولوجيا، أو ما عُرِف أيضاً بالإناسة أو علم الإنسان، وهو علم دراسة الجماعات الإنسانية وأصولها العرقية عبر الزمان والمكان، وما لذلك من انعكاس على الخصائص الفيزيائية التي تميِّز أفراد تلك الجماعة، وعلاقاتهم الاجتماعية، وخصائصهم الثقافية.
ومع تطوِّر الاهتمام بعادات الجماعات العرقية وتقاليدها وأنماط عيشها ولغاتها، بدأ سؤال ملحّ يطرح نفسه على الباحثين: هل التنوّع الثقافيّ في المجتمعات التي تتميّز بتنوّع عرقي دليل غنى ثقافي أم مؤشّر على تعدّد الثقافات في المجتمع الواحد؟ هل نحن أمام ثقافة واحدة جامعة غنية بمكوِّناتها، أم أننا أمام ثقافات متعدّدة لأقوام وجماعات متجاورة؟
ليست الإجابة عن هذا السؤال بالأمر الهيِّن، وما آلت إليه البحوث العلمية التي تناولت هذه الإشكالية تحديداً لا يوصل إلى النتائج نفسها. ولعلّ مردَّ ذلك إلى أنّ البحث العلميّ ذا الصلة بالإنسانيات لا يمكن فصله عن سياقاته التاريخية والاجتماعية التي تختلف من قارة إلى أخرى، بل من بلد إلى آخر. والنتائج التي يتمخّض عنها ليست إلّا انعكاساً لتلك السياقات، وهي تدخل معها في علاقة متبادلة من التأثير والتأثّر.
للإجابة عن التساؤلات التي طرحناها، قد يكون من المفيد بمكان محاولة فهم عدد من السياقات ذات الصلة بإشكالية التنوّع/ التعدد الثقافي. ولعلّ من أهمها السياق الاجتماعي الأمريكي الذي تطوّر فيه هذا النوع من الدراسات، وامتاز بتنوّع عرقيّ نشأ عن وجود أعداد كبيرة من المهاجرين قَدِمُوا من كل أنحاء العالم بحثاً عن فرص لحياة أفضل. أناس أتوا من كل حدب وصوب ومن مشارب وأصول ثقافية مختلفة حاملين لغاتهم وعاداتهم ومعتقداتهم وطقوسهم ليكوّنوا «وطناً متعدّد الأعراق» هو أشبه بالفدرالية الثقافية، إذ ينتمي الفرد في آن معاً إلى الأمّة كلّها، وإلى الجماعة العرقية الخاصّة به، الأمر الذي يُنتج انتماء ثقافياً مزدوج التركيب، يتعايش مكوِّناه في شبه عزلة أحدهما عن الآخر، لا يتداخلان، ولا ينصهران، ولا يطغى أي منهما على سواه، مع إمكان الخضوع إلى عوامل التطوّر والتحوّل الجيني الطبيعي. لهذا السبب تحديداً ركّزت البحوث والدراسات الاجتماعية الأمريكية على ظاهرة الهجرة والعلاقات والتأثيرات الثقافية الإثنية البينية، فنتج عن ذلك ماسُمّي «التعدّدية الثقافية»، وانكبّ الباحثون على تناول إشكالية الاختلافات الثقافية، واحتكاك الثقافات بعضها ببعض.
وعلى الرغم من أن دولاً أوروبية عدّة هي أيضاً دول جاذبة للهجرة، وأن أعداداً كبيرة جداً من المهاجرين تعيش بين ظهرانيها، إلا أنّ المنطق الرسمي في السياق الأوروبي يختلف اختلافاً جذرياً عما هو عليه في الولايات المتحدة، وقد انعكس هذا على مفهوم الثقافة، وعلى طبيعة العلاقة القائمة بين مختلف المكوِّنات الثقافية في البلد الواحد. ففي فرنسا التي تحوّلت منذ القرن التاسع عشر إلى ملتقى للمهاجرين الحاملين لثقافات متعددة المشارب ومتنوعة السمات، سادت فكرة الأمة الواحدة، وترافقت بقوة مع تمجيد الثقافة الفرنسية بمكوناتها التاريخية والفكرية واللغوية والأدبية والفنية جميعها، الأمر الذي حال دون تطوّر البحث في التنوّع الثقافي، وساد إلى وقت ليس بالبعيد منطق الأحادية الثقافية الذي لامس أحياناً حدود العنصرية والإقصاء الثقافي.
في سورية أرض الحضارات المتعاقبة، موطن الإنسان الأول، والحرف الأول، والمحراث الأول، وقصيدة الحب الأولى، والنوتة الموسيقية الأولى؛ أرض التلاقي والتمازج والتراكم الحضاري؛ الأرض التي تطوّرت فيها العقائد، وتمازجت الطقوس، وانصهرت العادات على اختلاف ألوانها؛ في سورية هذه لا يمكن الحديث عن تعدّد ثقافي، فمثل هذا الادِّعاء لا أساس علميّ ولا سند تاريخي له، لأنه ببساطة لا يعبّر لا عن السياق التاريخي ولا عن واقع الحال. إنّ المكوِّن الثقافي السوري، على تنوّعه وغناه وعمق تجذّره التاريخي، نسيج شديد التنوّع، لكنه محكم التماسك، تتعدد ألوانه وتتفاوت قوة أنغامه، لكنّها أنغام متناسقة وحلقاته متراصة متكاملة في تشكيل بديع التجانس والتكوين.
وإذا كان مذهب فرانز بواس ومن بعده ألفريد كروبر وكلارك ويسلر في العناية بالبعد التاريخي للظواهر الثقافية قد أوجد مجموعة من الأدوات المفهومية التي سمحت لاحقاً بتحديد أدق مكوّنات الثقافة، فإنّ واقع الأمر أن عزل عنصر من عناصر الثقافة عن كامل الهوية الثقافية هو مسألة في غاية الصعوبة، إنْ لم تكن أقرب إلى المستحيلات حين تتداخل تلك العناصر تاريخياً وقيمياً ومجتمعياً إلى حدّ الانصهار الكامل في جسمٍ وطنيٍّ واحدٍ متماسك.