العدد 690 – آذار 2021

أهلاً بالعنقاء

 

 وزيرة الثقافة

الدكتورة لبانة مشوِّح

 

اللغةُ على أنواعها، تصويرية كانت أم تعبيرية أم منطوقة، شكلٌ من أشكال الترميز التي ابتكرها الإنسان، والتي بها تتّضح قدرته الهائلة على استيعاب ما حوله، وعلى اختزاله، ومن ثمّ على الانتقال إلى مرحلة متقدمة هي مرحلة التعبير عن المعرفة والإدراك والرؤية… التعبير بالخطوط والتشكيل والنغم والكلمات. وكلّما ارتقى الإنسان فكراً، ارتقت وسائل تعبيره. بل لعلّي أذهب أبعد من ذلك، فأدّعي وجود علاقة جدلية بين تطوّر وسائل التعبير وارتقاء الفكر إلى مراتب أسمى.

وليست الأسطورة إلا شكلاً من أشكال التعبير الرمزي، تختزل موقف الشعب الذي ابتدعها من الكون والوجود، وتعبِّر في جوهرها عن مخاوفه، ومعتقداته، وخلاصة تجاربه، والعِبَر التي استقاها منها، ورؤاه لمستقبل يرتجيه.

أساطير الشعوب إذن ليست مجرّد قصص خيالية موروثة عن عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات، إنها جزء لا يتجزّأ من فلسفة وجودها، تختزل موقفها من الكون بشقّيه الغيبيّ والماديّ.

وبالحديث عن الأساطير لا يسعنا إلا أن نتذكّر أسطورة عربية الأصل والمنشأ هي أسطورة العنقاء، التي نجدها أيضاً بمسميات أخرى مثل طائر الفينيق، وقد ارتبطت عبادة هذا الطائر العجيب بطقوس عبادة الشمس في الحضارة الفرعونية، كما نجد الرمز نفسه في الميثولوجيا الإغريقية والآداب اللاتينية بمسمى (فينيكس).

كلُّها أساطير تتحدَّث عن طائر بديع الشكل عجيب القدرات، كلّما مات عاود واحترق بنفسه وتحوّل إلى رماد… ثم لا يلبث أن يُعاود الحياة لينهض من رماده، مجدِّداً نفسه، رافضاً الموت متحدِّياً الفناء. هي أسطورة، نجدها في آداب العديد من الشعوب، لأنّ البشر – على تنوُّع أجناسهم واختلاف ثقافاتهم – تجمعهم قواسم مشتركة.

لكنّ العنقاء أسطورة لا نملك اليوم إلّا أن نستعيد قيم الصمود التي تجسِّدها، واليأس الذي تبدّده، والأمل الذي تحييه. إنها انعكاس لواقع عاشته سورية عبر تاريخها الطويل، كابدتْ ما كابدته عبر العصور، واجهت الطامعين، وتصدّت للغزاة، لكنّ قلبها ظلّ ينبض بالحياة، لم تكسرها النوائب ولم تضعفها الخطوب. وها هي اليوم تهبّ مفعمة بالحياة، تنفض عنها الرماد. ها هي العنقاء الجميلة تخرج من تحت أنقاض حرب إرهابية مدمِّرة، متآلفة قلوب أبنائها، متكاتفة أياديهم. ها هي تنهض متجدّدة ومجدِّدة الأمل بالسواعد والعقول العازمة على العمل المخلص الدؤوب لإعادة بناء وطن يرفض أن يموت، وطن هو قرّة العيون ومهوى الأفئدة… وطن راسخ الجذور، ثابت القيم، عازم على أن يعود بالعلم والعمل بهيّاً كما عهدتْه البشرية، بل أجمل وأقوى مما كان.

 

(العدد 690 – آذار 2021) pdf.