المصطلحات والمفاهيم… بين الأصيل والدخيل
وزيرة الثقافة
الدكتورة لبانة مشوِّح
التطور سنَّةٌ من سنن الحياة، وكما تخضع لها الكائناتُ جميعاً، تخضع لها اللغاتُ وأدواتها من أصوات ومفردات ومعانٍ وتراكيب، وبنسب متفاوتة. واللغة التي لا تخضع لقانون التطور هذا يضعف شأوها، ويخبو بريقها، وتعجز عن مسايرة احتياجات الفكر والعصر، فيعزف أهلُها عن استعمالها، ويهجرونها إلى سواها، فتهزل وتنكمش وتدخل في حالة سُبات، وقد يكون مآلها الموت والزوال.
ولعل من أبين مظاهر التطور اللغوي تطور دلالات المفردات، والأمثلة على ذلك لا تعدُّ ولا تُحصى في المعاجم اللغوية العربية، قديمها وحديثها. ومن ذلك أيضاً التطور المفاهيمي للمصطلحات التي يُوضع بعضها للدلالة على مفهوم محدَّد، ثم تراه يستعمل في مجال أو علم أو حقل معرفي آخر مُعبِّراً عن مفاهيم مختلفة.
لكن التطور المفاهيمي يدخل أحياناً في صلب لعبة خبيثة يمكن إدراجُها ضمن سياسة غسل الأدمغة التي باتت وسائلُ الإعلام والتواصل من أقوى أدواتها وأكثرها فعالية في السيطرة على العقول خدمةً لأغراض عقائدية أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية.
والتلاعبُ بالمفاهيم من أهم مظاهر العولمة الثقافية وأخطرها، لما لذلك من انعكاسات فكرية وسلوكية على المجتمعات المستهدفة؛ إذ غالباً ما يؤدي تغييرُ المفاهيم إلى تشويهها بهدف خرق المنظومة القيمية، وصولاً إلى حالة من الاستلاب الفكري الذي يتجسَّد بتداول تلقائي لا إرادي لمفاهيم جديدة، وتبنٍّ لأفكار هجينة، واعتناقٍ لقيم مستوردة تتنافَى والقيم الأخلاقية والمبادئ الوطنية المؤسسة للأسرة والمجتمع والضامنة لوحدته وتماسك نسيجه.
ويُعدُّ التلاعب بالمصطلحات ونشر مفاهيمها الجديدة المشوّهة وسيلة فعالة على المدى البعيد لزرعها في العقول وترسيخها في الأذهان وتأصيلها في النفوس، بالتضليل وتزوير الحقائق والتعمية والتكرار، بهدف النيل من المنظومة القيمية والأخلاقية، وزرع الشك، وإضعاف الهمم، والدفع إلى اليأس والقنوط، وتفتيت بنية المجتمع، وصولاً إلى خلق حالة من الاستسلام، فالإذعان، أو إيجاد المبررات للتدخل الاستعماري في شؤوننا، ودفعنا إلى المواقف التي يرغبها، وتجيير سلوكنا وقراراتنا لخدمة مصالحه دون النظر إلى مصالحنا الوطنية الحقيقية.
ونظراً لأن المصطلحات هي الحامل للمفاهيم، فإن صحة تداولها ودرء مخاطر التلاعب بها يحتِّمان إدراكَ المفاهيمِ الدقيقة التي تعبِّر عنها والتشويهِ المتعمَّد الذي طالها. فكثيرٌ من المصطلحات التي تُتداول على الألسن والأقلام وفي وسائل الإعلام والتواصل باتت حاملة لمفاهيم دخيلة على الأصل، الهدف منه غالباً تكريس مفاهيم جديدة تخدم سياسات من ابتدعها وممارساته؛ وعمل على ترسيخها في الأذهان من قوى استعمارية بهدف السيطرة على العقول وصولاً إلى الغزو الفكري والهيمنة بكافة أشكالها.
مسؤولية التصدي لهذا الخطر تقع بالدرجة الأولى على عاتق المثقف، الحصن الأول في وجه الغزو الفكري.
لقراءة العدد كاملاً يمكنكم الضغط على الرابط أدناه:
مجلة المعرفة (العدد المزدوج 726- 727، آذار- نيسان 2024م) pdf.