التراث الشعبي – العدد 22

تأملات في لغة التراث

وزيرة الثقافة

الدكتورة لبانة مشوّح

بدأت الحكاية بمصطلح «فولكلور» المعرّب الذي تلقفناه بحماسةٍ وشغف لدلالاته الجميلة؛ وكيف لا وهو يعيد إحياء موروث ثقافيّ يُخشى عليه من الاندثار، ويردّ الاعتبار لبعض ممارساتنا اللغوية والأدبية والاحتفالية والطقسية، إضافة إلى عادات وتقاليد حياتية يومية انتقلت مشافهة عبر الأجيال، ممّا يجعل من حصرها وتوثيقها وحمايتها من الاندثار مسؤولية كبيرة وأمراً ليس بالهين.

إلا أنّ بعض المثقفين نَحَوا إلى تصنيف «الفولكلور» في درجة الممارسات الدُّنْيا. لا بل وضعها البعض في خانة التخلّف متّهمين العاملين في هذا الحقل المعرفيّ المهمّ والداعمين والمروّجين له بالمبالغة في الإسفاف والإسهام، عن معرفة منهم أو عن جهل، في إغراق المجتمع في عادات بالية وممارسات لا طائل منها، بل من شأنها إعاقة عجلة التقدّم والانطلاق نحو الحداثة والفكر العلميّ. وتذهب فئة منهم إلى عدِّها تعزيزاً للإقليمية، وإضعافاً للهوية الوطنية، وتهديداً للغة القومية.

من هذا المنطلق، حصل انزياح دلاليّ لمصطلح «فولكلور»، إذ أُلبِس دلالة سلبية، وبات يوصف به كلّ ما يفتقر إلى الجديّة والأصالة والعمق من حديث أو سلوك أو عادات. الأمر الذي أدى تدريجياً إلى الابتعاد عن استعمال المصطلح، وإلى ظهور مصطلح أكثر تعقيداً هو «التراث اللامادي».

وكما سبق أن أشرنا، لا يخلو مصطلح «التراث اللامادي» من التجريد والإبهام؛ إذ يختلط فيه مفهومان متمايزان متناقضان، لكنّهما مترابطان في آن معاً لا تنفصم عراهما، ألا وهما مفهوم «المادي» ومفهوم «اللامادي». أمّا الأول هو المنتج التراثي النهائي لغةً محلية كان، أم أهزوجة، أم حكاية شعبية، أم مأكلاً، أم نبتة، أم طبقاً تقليدياً يختصّ بمناسبة دون سواها، أم طقس فرح أو حزن، أم زينة في عيد أو عرس أو مناسبة دينية، إلخ… وأمّا الثاني، فهو القصّة الكامنة وراء هذا المنتج التراثي، والبيئة الحاضنة له والضامنة لاستدامته، من الفرد أو الجماعة المحتضنة له والمختصّة بإنتاجه، والمهارات اللازمة لصنعه، ومكان ممارسته، وأسرار تلك الممارسة وطقوسها ودلالاتها الفكرية والاجتماعية….إلخ.

لا أظنّ أن اختيار هذا المصطلح كان وليد المصادفة أو ضرباً من العبث اللغويّ. كما لا أرى من الأجدى لنا نحن- أبناءَ لغة الضاد وحُماتها – أن نستغنيَ عنه ونكتفيَ بمصطلح «فولكلور» المعرّب، أو بعبارة اصطلاحية طال تداولها وشاع، وهو مصطلح «التراث الشعبيّ»، ذلك أنَّ هذا الأخير لا يُغطّي كلّ جوانب التراث اللامادي، من جهة، ويقترب في ذهن البعض من دلالة الفولكلور التي لا تخلو من صبغة سلبية، كما سبق أن أسلفت. ولقطع الشك باليقين، يبقى سؤال قد تُسعِفنا الإجابة عنه في حسن اختيارنا للمصطلح الأنسب: هل الدقة والمهارات التي يتطلّبها إنتاج القيشاني أو تنزيل الصدف على الخشب أو صناعة الأعواد الدمشقية من التراث اللامادي، أو من التراث الشعبي؟ وهل المهارات المرتبطة بزراعة الوردة الشامية واستخلاص عطرها تراث شعبيّ أو لا ماديّ؟ وأيّهما أشمل وأعمّ مصطلح «التراث اللامادي» أم «التراث الشعبي»؟

جملة أسئلة للتأمّل اللغويّ ليس إلّا، فللغتنا، كما لتراثنا، علينا حق.

 

 

(التراث الشعبي – العدد 22) pdf.