الترجمة بين التنظير والتطبيق
وزيرة الثقافة
الدكتورة لبانة مشوِّح
إذا كان مما يُرام من الترجمة إقامة تواصل فكري ومعرفيّ بين الشعوب، أي إزالة الحواجز الثقافية بتجاوز العوائق اللغوية، فإنّ تعدّد النظريات والمقاربات والرؤى التي تتناول الفعل الترجميّ وما نجم عنها من تعقيدات وتداخلات تنظيرية وإبهام مصطلحي وسوء فهم، أوجد نوعاً آخر من الحواجز بين المترجم والنص، ما أدى في كثير من الأحيان، ولا سيما لدى المترجمين المبتدئين أو لنقل غير الضليعين بتلك المهنة النبيلة، إلى نوع من التشتّت والضياع في معرفة معاييرها الدقيقة التي يمكن أن تكون بوصلة توجِّههم لتبنّي أفضل الخيارات وأسلم الممارسة.
يرى بعض المنظرين أن الترجمة عملية لسانية بحتة، وأنّ العمل الترجميّ لا بدّ له من أن ينتقل من مفهوم «الفن» إلى كونه فعلاً ممنهجاً خاضعاً لأسس وقواعد اللغة الأصل واللغة الهدف؛ وهو ما عُرف منذ خمسينيات القرن الماضي بالنظرية اللسانية للترجمة، والتي اعتمدت الجملة وحدة أساسية للعمل الترجميّ. انبثقت هذه النظرية من رحم الأسلوبيات الحديثة التي أسّسها شارل بالي. أمّا أوّل من أطلق النظرية اللسانية في الترجمة فهما الكنديان جان داربلني (Jean Darbelnet) و جان بول فين
(Jean-Paul Vinay)
ومن جهة أخرى، يرى أصحاب النظرية الـتأويلية في الترجمة، التي هي امتداد للنظرية اللسانية، وجوب مقارنة اللغات من حيث نظامها اللساني، مع التركيز الأكبر على الترجمة السياقية وعلى تحليل المعنى كما يظهر في النص أو الخطاب، فابتعدوا بذلك عن اللسانيات البنيوية والتوليدية ليقتربوا من اللسانيات النصية. ظهرت النظرية التأويلية في المدرسة العليا للترجمة والترجمة الفورية في باريس، وتبلورت في نهاية السبعينيات من القرن الماضي. ومن أهمّ منظّريها دانيكاسيليسكوفيتش وماريان ليدرير.
أمّا نظرية الهدف، فهي أقرب إلى الوظيفية. أسّسها اللساني الألماني هانز فرمر(1930-2010) الذي رأى أنّ الترجمة بشقيها التحريري والفوري فعل إنسانيّ إراديّ له هدف محدّد يُمليه موقف محدّد، ويشكّل المتلقي واحتياجاته التواصلية وتوقّعاته وثقافته ومدى معرفته بالعالم أحد أهم العوامل التي يُحدَّد الهدف على أساسها. وبما أن الفائدة من الترجمة هي الهدف، فإن «نظرية الهدف» يمكن أن تنطبق على أي نوع من أنواع الترجمة.
ولا ننسى ما يسمى بالدراسات الترجمية والنظريات متعددة النظم، والنظرية السيميائية في الترجمة، والمقاربات الرديفة للنظريات الأدبية التي تصحّ في الترجمة الأدبية دون سواها، إلخ…
واقع الأمر أن أحداً لا يملك وصفة سحرية يعمِّمها كي يعتمدها المترجمون ليخرجوا بأفضل النتائج. ذلك أنّ لكل نوع من أنواع الترجمة خصائصه المميزة ومقوّماته وشروطه التي ينبغي التقيّد بها والعمل بموجبها؛ وهي خصائص متغيّرة بحسب اللغة المصدر واللغة الهدف. كما أنها متبدّلة تبعاً لنوع النص المصدر المراد نقله إلى اللغة الهدف؛ فترجمة نص علميّ تخضع لمعايير معيّنة لا بدّ للمترجم من أن يتقيّد بها، وهي تختلف اختلافاً جذرياً عن تلك التي تخضع لها ترجمة النصّ الإعلاميّ الذي يتّصف بسمات خاصّة تميّزه عن سواه من النصوص،لا بل تكاد تجعله مع النص العلمي على طرفيّ نقيض، وتقتضي ترجمته معرفة تلك السمات، واتّباع منهج دقيق محدّد يتيح التعامل معها للخروج بأفضل النتائج وبما يتناسب وخصائص اللغة الهدف.
وكذا هي الحال بالنسبة إلى النصّ الأدبيّ الذي له مقوّماته وسماته. بل إنّ النص الأدبي يختلف باختلاف جنسه؛ لا بل باختلاف أسلوب الأديب ولغته في الجنس الأدبيّ الواحد، أي باختلاف سمات إبداعه. ولدى مُنظّر مثل إدموند كاري، ليست الترجمة عملية لسانية بل عملية أدبية، أي أن مترجم القصيدة لا بدّ أن يكون شاعراً. وبما أنّ القصيدة نقيض اللغة العادية ووسيلة لإيصال ما لا يمكن للغة العادية، إيصاله، لا بدّ أن تكون حصيلة الترجمة وفق السوية عينها من الإبداع والتجديد.
ولترجمة الشعر قصّة أخرى….