بين اللغة والكتابة
وزيرة الثقافة
الدكتورة لبانة مشوِّح
قبل نحو ثلاثة ملايين سنة ونيف، حين كان إنسان العصور الحجرية بدائياً يسكن الكهوف، ويصنع أدواته من الحجارة والعظام، ويقتات على ما يصطاد، كانت وسيلته للتعبير والتواصل لا تتعدى حدود أصوات يصدرها عن غضب أو خوف أو ألم أو رغبة. اكتشف النار وما لبث أن عمل بالزراعة وصنع الخزف والنسيج ومارس التجارة، ثم تعرّف المعادن وكيفية صهرها وصنع أدوات تعينه على البقاء في بيئته.
تطورت لاحقاً مقدرته اللغوية، فكانت انعكاساً لتطوره دماغياً، وأحدثت نقلة نوعية في تطور أنماط سلوكه الاجتماعي ومستوى أنشطته الاقتصادية. لكن الانتقال من اللغة إلى الكتابة لم يحدث بين ليلة وضحاها، بل مرّ بمخاض طويل عسير. بدأ الإنسان منذ الألف الخامس قبل الميلاد بالنقش على الحجر كتابة تصويرية. ثم ابتكر الكتابة المسمارية التي فكّ علماء الآثار طلاسمها في القرن التاسع عشر، فأمكن بذلك قراءة ما دوّن السومريون بها على ألواح طينية من سجلاتهم الرسمية وأعمال ملوكهم وشؤون حياتهم العامة كالمعاملات التجارية والأحوال الشخصية والمراسلات والآداب والأساطير وشؤون دينهم وعباداتهم وعلومهم. ومن أعظم ما خطّه إنسان الشرق القديم على الرقم الطينية بالكتابة المسمارية وقائع حكم الملك حمورابي وأحكام شريعته التي ضمّت القانون المدني والأحوال الشخصية وقانون العقوبات. بفضل ذاك التدوين انتقلت الحضارة من المشرق العربي القديم إلى جميع أطراف العالم القديم.
وفي منتصف الألف الثاني قبل الميلاد ظهرت في أوغاريت ثورة على أنماط الكتابة التصويرية والمقطعية المعقدة، فكان الاختراع الذي قدّم للإنسانية واحدة من أعظم المساهمات الحضارية: أبجدية أوغاريت التي أوجدت الحروف فسهّلت الكتابة. أصبحت أبجدية أوغاريت أساساً للكتابة في شرق العالم القديم وغربه. ولمَّا طور الإغريق أبجديتهم نحو سنة 403 ق.م أسّسوها على أبجدية أوغاريت، وعنها أخذ الرومان أبجديتهم، أخذوا منها حروفاً، وأدخلوا عليها أخرى بسّطت الكتابة، وجعلتها في متناول الجميع. ذاك كان أول إنجاز حقيقي أسهم في نشر المعرفة.
اختراع الكتابة كان دون شك من أعظم إنجازات الإنسان. بالكتابة تجاوز اللحظة الآنية إلى المستقبل، تساوت عنده مصالحه الضيقة مع مصلحة الأجيال القادمة، بل تفوّقت عليها أحياناً. انتقل من حدود حاجاته الضيقة في التعبير والتواصل، إلى مرحلة أرقى من النضج الفكري والقيمي. في سياق سعيه اللاواعي إلى الخلود، رغب واعياً في أن يحفظ بالكتابة منجزه الثقافي من الاندثار. أراد لخلاصة تجاربه ونتاج فكره أن ينتقل إلى الأجيال اللاحقة، ميراثاً ثميناً تُستخلص منه الفوائد، وتُستقى المنافع، ويُستزاد مما فيه من معارف.
قد يزيد ناسخ المخطوط أو يُنقص في الأصل. قد يشوِّه أو يزوّر… لكنّ المخطوط يظل وثيقة تاريخية تُفحص وتُدرس بعناية فائقة وفق أسس محدّدة ومنهجية علمية دقيقة لا يجوز الاستسهال أو التهاون في تطبيقها. على عاتق المحقّق تقع مسؤولية كبيرة في تحديد أصالة المخطوط والتحقّق من صحة ما ورد فيه، فقد يُبنى عليه الكثير في إعادة كتابة التاريخ وتحليل معطياته من كلّ جوانبه السياسية والمعرفية والاقتصادية والاجتماعية.
لقراءة العدد كاملاً، يمكنكم الضغط على الرابط أدناه: