العدد 26 – شتاء 2022

الجميلات الخائنات…

وزيرة الثقافة

الدكتورة لبانة مشوِّح

 من المؤسف أن يضع البعضُ الترجمةَ خارج إطار الأعمال الإبداعية، فلا يزال يرِد في الوثائق الرسمية وجداول بعض دور النشر تصنيفان لتعرفة النشر: تعرفة لما يُصنّف «عملاً إبداعياً» يتقاضاها مؤلِّفُ الكتاب أو كاتب المقالة أو ناظم القصيدة؛ وتعرفة لما يُصنّف «عملاً مترجماً». وبقدر ما يعطي هذا التصنيف الفئة الأولى حقّها، بقدر ما يغبن أيما غبن من يندرج ضمن الفئة الثانية ويبخسه حقَّه.

قد يجد البعض لذلك عذراً في أنّ التأليف أو النظم أو البحث ليس كالترجمة. فالمؤلّف يبتدع، من حيث المبدأ، الفكرة واللغة والأسلوب؛ وقد ينحو في بعض الحالات نحو البحث والتوثيق ليستكمل جوانب موضوعه، فيُكسِب كتابته صفة الواقعية والصدقية. وكذا حال الشاعر الذي يحلّق في تأملاته وانغماسه في عوالمه الداخلية، ويسعى لإثبات شعريته بتخيّر مفرداته وابتكار صوره واصطفاء موسيقاه. أمّا الباحث الحقّ، فهو ينكبّ عل مادته ينقّب فيها عن إشكالية يُعالجها ويُشبعها درساً، يسعى فيها لاتِّباع منهجية صارمة، فيجمع معطياته، ويبحث في الأسباب والنتائج، ويقترح الحلول أو يثبِت نجاعتها.

فأنّى للمترجم أن يداني هذه الإبداعات! وأين بالله يكمن إبداعه إن كان مجرّد ناقل من لغة إلى أخرى ليس إلا؟! أو ليست الترجمة «خيانة»! أو ليست الأعمال المترجمة هي «الجميلات الخائنات»! فأين هي الترجمة من الإبداع؟ اللهم إلا إذا كان في الخيانة إبداع!

مقولة “الجميلات الخائنات” التي تُلحِق بالترجمة العار وبالمترجمين الضيم تعود إلى القرن السابع عشر، وتحديداً إلى العام 1650 عندما استخدمها جيل ميناج Gilles Menage في معرض انتقاده لترجمة بعينها أنجزها المترجم الفرنسي نيكولا بيرّو دَبلانكورd’Ablancourt (1606-1664) بلغة جميلة وأسلوب راق بديع، لكنّها لم تكن مطابقة للنّص المصدر. ومنذ ذاك الحين والجدل محتدم بين من يعمّم هذا الحكم وتلك المقولة على «الترجمة» عموماً من أمثال جورج مونان (1955) فيحكم على الأعمال المترجمة بأنها «جميلات خائنات» ويعدّ أنّ الخلل والعجز كامن في عملية الترجمة أصلاً؛ بينما يخرج آخرون عن هذاالحكم ضّيق الأفق المشكّك في قيمة العمل الترجميّ والجهد العظيم الذي يُبذل فيه فيعدّه علماً قائماً بذاته وعملاً إبداعياً بحق، من أمثال الباحث والمنظِّر في علم الترجمة جان ــ رين لادميرال (1994).

والواقع أن هذه المقولة التي يردّدها البعض عن غير علم بأصول الترجمة التي ارتقت لتصبح علماً تنظمه قواعد ومعايير صارمة، إنما هي مقولة تنمّ عن موقف مسبق وتعميم لا يمتُّ للفكر العلمي بصلة، إذ إنه انطلق أصلاًمن حالة خاصة جداً وعمِّم على المنتج الترجميّ برمّته. وقد ركب جورج مونان الموجة لقناعته أولاً بأن الاختلاف الجذري بين اللغات يجعل من المستحيل نقلها بأمانة مطلقة. وثانياً لأنه فُتِن بمقولة ميناج، منطلقاً من تجربته الخاصة مع النساء اللواتي ارتبط بهنّ وكنّ له خائنات.

وواقع الأمر أن الترجمة كان لها فضلٌ كبير على البشرية. إذ نُقِلت بفضلها آلاف المؤلفات في علوم الفلسفة والطب والهندسة والفلك، إلخ… وكانت جسراً لعبور شعوب من عصور الظلمات إلى عصور الأنوار. أيكون كلّ ذلك كذبة، وخيانة، وتلفيقاً وتدليساً…!

وهنا لا بدّ من القول إنّ على المترجمين، إذا ما أرادوا أن يُرفع عنهم هذا الضيم، مسؤولية جسيمة مزدوجة: مسؤولية الأمانة للنّص الأصل لغةً ودلالاتٍ وأسلوباً وعمقاً ثقافياً، وكذلك الأمانة للغة الهدف لغةً وأسلوباً وقيماً ثقافية. ذاك وحده هو السبيل لتبرئتهم من تهمة «خيانة» النص المصدر…. بانتظار أن يُعترف بـ «إبداعهم».

 

 

(العدد 26 – شتاء 2022) pdf.