وزيرة الثقافة
الدكتورة لبانة مشوِّح
العربية… وأثرها في اللغات الإفريقية
تعود صلة اللغة العربية بسواها من لغات الشعوب إلى حقب عميقة في التاريخ. انتشرت في أصقاع الكون مع قوافل التجار, والرحّالة, وطلاب العلم, والضاربين في الأرض بحثاً عن ملاذ, أو استكشافاً لبقاع, أو تلهّفاً لمغامرة, أو طلباً لمجد أو رزق. وتبادلت العربية مع تلك اللغات اقتراض ما استساغه أهل كلٍّ منها ووجد فيه منفعةً, من مفردات وعبارات ومصطلحات ومعان وصور ودلالات؛ وتلك سنّة من سنن تلاقح اللغات والعادات والحضارات.
وكان للقبائل العربية مع شعوب إفريقيا الواقعة جنوب الصحراء صلة عميقة الجذور في التاريخ. ولعلّ أهل اليمن هم أكثر مَنْ تغلغل في تلك القارة حتى وصلوا إلى القرن الإفريقي والحبشة. وكان للرحالة والتجار العرب الدور الأكبر في التأثير بلغات إفريقية عدّة, علماً أن مئات اللغات الإفريقية تبلورت عبر الزمن حتى إنَّ المؤرخين اللغويين يذهبون إلى التأكيد بأن عددها جاوز الستمئة لغة بين محكية ومدوّنة. ونجد اليوم أثراً واضحاً للعربية في العديد منها لناحية إغناء مفرداتها, فضلاً عن دورها في نقل بعض التقاليد والحكايات والعادات من وإلى هذه البلاد الرحبة الشاسعة متعددة الثقافات كما اللغات.
ثم ما لبثت اللغة العربية أن اكتسبت هالة من قدسية أنَّها أصبحت لغة التنزيل الحكيم, وأصبح لزاماً على كل معتنق للإسلام أن يحترمها ثم يتعلّمها, كلٌّ على قدر استطاعته. ويُجمِع الدارسون للغات الإفريقية على غنى كثير منها بمفردات وعبارات انتقلت إليها عبر أشكال مختلفة من العربية. ذاك هو حال اللغات السنغالية وأهمها اللغة الولوفية التي اقترضت من العربية كثيراً من مفرداتها وكيّفتها بحسب آلية نطق أهلها, فأسقطت الهمزة من (الثلاثاء) لتغدو (ثلاث), والعين من (الجمعة) لتصبح (الجُمَّ), وأبدلت بالخاء كافاً في (خسارة) لتصبح (كسارة), وغيرها كثير… ولم يقتصر الأمر على اقتراض المفردات, بل تجاوز ذلك إلى التأثّر بتراكيب العربية النحوية وبعلوم النحو والصرف لدى القدماء, فعمل النحويون السنغاليون على تثبيت تراكيب لغتهم الولوفية وتشذيبها.
ومن اللغات الإفريقية الأخرى التي طبعتها العربية بطابعها الواضح اللغة البولارية أو الفولانية, ونجدها منتشرة في النيجر وعلى طول حوض نهر السنغال. والتشابه كبير بين كثير من مفردات العربية والفولانية؛ منها كلمات حافظت على منطوقها (وقت, فجر), وأخرى خالفت الأصل في صيغة الإفراد أو الجمع من مثل كلمة (جنائز) وهي الجنازة؛ ومنها ما لحقت به علامة العائدية فانقلبت كلمة البنون لتصبح (بنونا), وغدت كلمة (بيتي) هي نفسها البيت. ومنها ما اختلفت أبنيتها (قَلِم, قلَم) و(خِبَار, أخبار). كما لجأت الفولانية إلى تخفيف العين بإبدالها همزة كما في (إلّا) وهي العِلّة, وإبدال الحاء هاءً كما في (هلال) وهي حلال, وهو ما نجده في بعض اللهجات المحكية في مصر والسودان وغيرها.
اللغة ليست وسيلة تعبير وتواصل فحسب, إنها وعاء يختزن المعارف والعادات والرؤى, بل فلسفة الإنسان وموقفه من الوجود, وهي مرآة تعكس كلّ ذلك في آن معاً. لم تؤثّر العربية في مفردات تلك اللغات وبنيتها النحوية فحسب, بل عزّزت من قدراتها البلاغية فأغنت صورها البيانية واستعمالها للكناية والمجاز على أنواعه.
لا شكّ في أن أثر اللغة المقترض منها في اللغات الأخرى أعمق وأهم ممّا يركِّز عليه الباحثون غالباً من إغناء للمحتوى المعجميّ للغة المستورِدة للألفاظ. وهذا يدعونا إلى تجاوز البحث في أصول المفردات ومنبتِها, إلى البحث في أثر الاقتراض اللغوي في أنماط التفكير والعلاقات الاجتماعية والرؤى الفكرية. هي دعوة للانتقال من الدراسات اللغوية الوصفية البحتة إلى مستوى الدراسات اللغوية –النفسية الاجتماعية, الأمر الذي يتيح مادة ثرّة لفهم كثير من الظواهر المجتمعية والفكرية والنفسية, وربما معالجتها.
وأخيراً, لا بدّ من طرح إشكالية جديرة بفتح باب واسع لبحوث لغوية جادة لعلّها تكون ذات جدوى في فهم الإنسان وترميم ما تصدّع من فكره: ما أثر الدخيل من المفردات والمقترض من العبارات في اللغة العربية في المنظومة الفكرية للناطقين بها؟
وللحديث كالعادة بقية…
(العددان 696 – 697، أيلول – تشرين الأول 2021) pdf.