إدراك المعنى
وزيرة الثقافة
الدكتورة: لبانة مشوِّح
درج البعض على الاعتقاد أن الترجمة فنّ لا علم، وأنّ ممارستها تتطلّب أمرين اثنين ليس إلّا: المعرفة اللغوية و الموهبة. ولطالما انبرت أقلام وارتفعت عقائر تؤكِّد تلك المقولة وتدعمها بالشواهد والإثباتات التي من أهمها وأكثرها إقناعاً ترجمة الشعر بما تقتضيه تلك العملية المعقّدة من معرفة عميقة باللغة المصدر، ومهارة وموهبة في إعادة الصياغة الشعرية في اللغة الهدف. لاريب في أن عنصري المعرفة اللغوية والموهبة الأدبية شرطان أساسيان لا بدّ من توفرهما لضمان الحدّ الأدنى من جودة النقل، لكنهماحتماً ليسا بالشرطين الكافيين، وادِّعاء العكس يعني إنكار ضرورة إخضاع المترجم للتأهيل الأكاديمي بدعوى أنّ هذا التأهيل من شأنه أن يفرض عليه قيوداً تكبّله وتلزمه بقواعد صارمة تحدّ من حريته في انتقاء ما يراه مناسباً من عبارة أو أسلوب.
بات اليوم من المسلّمات أن عملية تأهيل المترجم تُبنى أولاً على معرفته العميقة باللغتين المصدر والهدف، وتهدف ثانياً إلى صقل قدراته الإدراكية والمعرفية ومهاراته التعبيرية. لكن تطوير القدرات الإدراكية للمعنى يقتضي معرفة دقيقة للآلية التي تتحكّم بإدراك المعنى في الذهن، وهو ما انكبّعليه العلماء اللغويون والمختصّون في علم الترجمة دراسة وتحليلاً.
يفترض بعض العلماء، ومنهمالباحث اللغوي البريطاني دان سبربر Dan Sperber، أن عملية فهم المترجم للنصوص تمرّ بمرحلتين، تقوم الأولى على فهم لغة النص، بينما يتمّ في الثانية استنباط المعنى بواسطة معارف ما وراء لغوية. تقوم فرضية الاستدلالات المنطقية التي تنتقل من فهم المغزى إلى استنتاج المعنى على وجود عملية ذهنية من مرحلتين لا يمكن الإتيان ببرهان على حقيقتها النفسية؛ فهي أشبه بالمسائل التي يُطالب الحاسوب بحلّها ومعالجتها وصولاً إلى هذه الغاية، لكن من غير الممكن إثباتها بمجرد ملاحظةالسلوك البشري.
ليس إدراك المعنى مجرّد نتاج مراحل متلاحقة، بل هو نتاج عملية ذهنية واحدة وأحادية متكاملة. والمترجم لا يفهم نصّاً ما على مرحلتين: في مرحلة أولى على مستوى اللغة، وفي مرحلة على مستوى الخطاب ككل؛ بل إن فهمه للنص يتمّ بالمجمل على مستوى الخطاب.
في هذا السياق، تتحدّث المترجمة والباحثة في علم الترجمة ماريان لوديرير عن وجود ظاهرة نفسية تطبع كلّ مداركنا: “عندما أعود إلى منزلي لا أرى أولاً “منزلاً” ما، ثم أرى “منزلي”.وعندما ألتقي صديقاً، لا أرى أولاً رجلاً ما لأدرك لاحقاً أنّ هذا الرجل صديقي. إنّ إدراك المفهوم العام للمنزل والصديق لا يتم بمعزل وبشكل منفصل عن التعرّف على هذا المنزل أو ذاك الصديق.وحده المعنى الخاص كفيل بأن يلامس الإدراك لينطبع في الذاكرة.لا ينفصل المعرفيّ والوجدانيّ عن الدلاليّ، سواء بالنسبة للكاتب أم للمترجم. إنّهما يشكِّلان كلّاً متكاملاً في ذهن الكاتب والمترجم على حدّ سواء”.
لقد أثبت جاك بربيزيه الاختصاصي في علم النفس العصبي أنّ الإنسان يمرّ يومياً بتجربة الإدراك الفوريّ للمعنى، مفترضاً أن دماغ الإنسان يحتوي علىدارات متعدّدة الاستشعار ذات تشابكات لاتعدّ ولا تحصى، تُفعّل عند تعرّض إحداها للتنبيه. ودليله على ذلك أنّ أحداً لا يسعه أن يتفوّه بكلمة ما دون أن توقِظ في نفسه جملة من الذكريات؛ كما لا يمكن لأي منّا مخاطبة شخص ما دون أن يرتكز هذاالخطاب على حشد من الأفكار غير المعلنة. ما يحدث هو أنّ عدداً كبيراً من الدارات تُنبّه، وإن لم تنخرط كلّها في عملية برمجة الكلام.
أحببت في هذه العجالة أن ألقي بعض الضوء على جانب صغير ضيق من جوانب فسيحة غنية اكتشفها العلماء على تعدّد اختصاصاتهم وتنوّعها فيما يتعلّق بآلية عمل الدماغ في إدراك المعنى، سواء بالنسبة للمرسل أو المتلقي، للكاتب أو للمترجم، والتي كان لها أكبر الأثر وأعمق الفائدة في تطوير عملية تأهيل المترجمين والمترجمين الفوريين. إنها دراسات علمية بحتة أسّست لتطوير ممارسات عملية حوَّلت الترجمة من “فن” إلى “علم”.