صون التراث…. ضوابط ونواظم
وزيرة الثقافة
الدكتورة لبانة مشوّح
ليس عبثاً أن تعنى الشعوب بتراثها الشعبي، وأن تحرص كل الحرص على حمايته وصونه؛ فهو الإرث وهو الجذور، ومن أنكر إرثه وأهمله كمن اجتثّ جذوره، فضلّ هائماً يخبط خبط عشواء في لجّ لا يعرف له قراراً من مؤثرات حضارية غريبة الهوية، تغرقه بدل أن تنجيه، وتفقره بدل أن تغنيه، يتيه فيها بدل أن تعينه على تصحيح المسار وإنارة السبيل.
تهتم الجامعات في شتى أرجاء العالم بالتراث بشقّيه الماديّ واللاماديّ كعلم قائم بذاته يُدرَّس وتُفرد له الأبحاث؛ فالتراث الشعبي جزء لا يتجزأ من الهوية الثقافية التي رسم ملامحها وصاغ مفرداتها عبر التاريخ جملة عناصر ومكوِّنات تجلّت فنوناً ورسوماً ونقوشاً، وأنغاماً، واحتفالاتٍ وعاداتٍ، وأفراحاً وأتراحاً، وطقوساً، ومهناً، وأدوات، ومهاراتٍ متوارثةً، ومأثوراتٍ شعبيةً ومعتقداتٍ، وأمثالاً، وقصصاً وحكاياتٍ شعبيةً تجري على ألسنة الناس تختزل تجارب وسلوكيات ورؤى وفلسفة حياة، ترسم ملامح شخصيتهم أفراداً ومجتمعات، وتعكس درجة وعيهم وعلاقتهم فيما بينهم وبما حولهم. وقد دأب الدارسون على تقصّي أوجهها، وتحديد سماتها، وتحليل عناصرها، وتفسير دلالاتها، وتأويل أنماطها، وردّها إلى أصولها، واستنباط ما ينظمها من قوانين وما يحكمها من ممارسات.
ولعلي لا أجانب الصواب في ادّعاء أن عراقة الشعوب تُقاس، فيما تقاس، بغنى تراثها الشعبيّ وتنوّعه واتِّساع طيفه. وسورية مثال حيّ لتراث شعبيّ واسع بمجالاته، غنيّ بمكوناته، ملهم بحيويته وتجدّده؛ تراث يحق لنا، ونحن أبناء الحضارة الراسخة جذورها في التاريخ، المتجدّدة أغصانها، الغنية ثمراتها، يحقّ لنا أن ننصِّب أنفسنا حامين له، مطوّرين لأشكاله وتجلياته، كلّ في حقله وميدانه.
إنّ حماية التراث الثقافي وصونه إنما هو صون لتاريخ عريق، وحماية لمعالم هوية ثقافية نعتز بمكوِّناتها؛ ويكون الصون هذا بحصر عناصر هذا التراث على سعتها، وتوثيقها بتوصيف خصائصها على غناها، ومن ثمّ بإصلاح وترميم الأشياء المتعلقة بها لمتابعة استعمالها والتمتع بجمالها.
لكنّ صون التراث يكون أيضاً بتطوير أدواته وتنويع أشكاله والخروج به من التقليد إلى الابتكار فالإبداع. يخطئ في قناعتي من يظن أن في تحنيط التراث حماية له، وأن تكراره في قوالبه التقليدية دون أي تجديد إنما هو تجسيد لأصالته. بل إن هاجس الصون يُملي علينا أحياناً تطوير الأصل وإغناءَهُ بما يحفظه ويكمّله ويغنيه جمالاً وإبداعاً. لا بل إنّ إعادة توظيف التراث وفقاً لمتطلبات العصر ودمجه في الحداثة يُكسِبه قيمة مضافة، ويضمن استمراره وديمومته.
من هذا المنطلق، عمد سيزار براندي صاحب النظرية الشهيرة في الترميم إلى وصفه بأنه “اللحظة المنهجية التي يُقدر فيها العمل الفني في شكله المادي وفي ازدواجيته التاريخية والجمالية، بهدف نقله إلى المستقبل”.
ولا يتمّ ذلك بطريقة عشوائية، بل يخضع لضوابط دقيقة ولنواظم علمية، وتراعى فيه مبادئ أخلاقية بسيطة، هي التدخل بالحد الأدنى، واستعمال العناصر والمواد المناسبة، واللجوء إلى الأساليب القابلة للإزالة فيما لو كانت النتيجة مخالفة للمراد، والتوثيق الكامل لكلّ الأعمال المنجزة. وغالبًا ما يكون هناك مفاضلة بين الحفاظ على مظهر العنصر التراثي والإبقاء على تصميمه الأصلي وخصائص المواد التي صنع منها، من جهة، وإمكانية إدخال عناصر جديدة وتغييرات يمكن العدول عنها، من جهة أخرى.
على القائمين على أعمال الحفظ والصيانة أن يراعوا إذن المنهجية التي اتُّبِعت في تكوين العنصر التراثيّ، وأن يحافظوا على روح العمل والقيم الكامنة وراءه والنية التي قدِّم بها. ولا مناص من أن يفهموا معنى العمل ومغزاه، وعمق دلالاته وعميق تأثيره الفكريّ والنفسي.
التراث إذن مادة بحث حقيقيّ، ولا يجوز بأي حال من الأحوال الاستخفاف أو الاستسهال في تناوله وحمايته، والذي يتصدَّى لهذه المهمة الصعبة ينبغي أن يكون متمكناً من أدواته، أميناً على مادته؛ فتراثنا أحد مكونات تاريخنا، وركن أساسي من أركان هويتنا ونسيجنا الوطني.