العدد 687 – كانون الأول 2020

إرادة جبّارة

 

وزيرة الثقافة

الدكتورة لبانة مشوِّح

 

عندما تعصف الملمّات بالأوطان، ويضيق الخناق على الأعناق، حتى ليكاد يخال المرء أن كلّ السُّبل انقطعت به، وأنّ الآفاق سُدّت في وجهه، وأنَّ أحلامه تبدّدت سراباً يفوت قبضته كلما خال أنه أوشك على إدراكه؛ عندها تُحبط نفوسٌ، وتزيغ أبصارٌ، وتنحني هاماتٌ، وتخمد عزائمُ  تحت وطأة الخطوب.

لكنّ الناس ليسوا في ذلك سواسية؛ فمنهم من يأبى على نفسه الركون إلى ضعفها، يرفض أن يعصف اليأس بإرادته وكأنها ريشة تتقاذفها رياح النكبات، فيتعالى على جراحاته ويمتح من آلامه نسغ الأمل. من الناس من لا تخبو إرادة الحياة فيهم مهما تعثّرت خطاهم وضاقت بهم السُّبل، فلا تفتر لهم عزيمة، ولا يلين لهم جانب، ولا تنثني لهم إرادة.

هؤلاء هم أبناء شهباء الشام، أبناء حلب العظيمة، رجال إرادتهم لا تنكسر، عزيمتهم لا ينال منها ما تلين له الجبال، ولا يعرف الوهن إلى نفوسهم سبيلاً مهما عظمت الصعاب. رأيتهم في المسجد الأمويّ في حلب يُخرجون الرصاص من أعمدته المكلومة بالإرهاب، كما الجرّاح يستأصل بمبضعه الورم الخبيث من الجسد. رأيتهم يزيحون أعمدة المسجد التي ارتفعت لتوحيد الخالق، فيُرمِّمونها ويعيدون إليها ألقها بعد أن دنّستْها أيادي الحقد الآثم. رأيتهم يعالجون كلَّ حجر سقط على تلك الأرض المقدّسة، يحتضنونه بصدورهم، كما تحتضن الأمّ الحنون وليدها الذي تخاف أن يلحق جسده الضعيف أي أذى، فيرقمونه وينظّفونه من الشوائب التي لحقت به، ثم يرفعونه كما الدرّة الثمينة ليتوضّع على عرش سور هنا أو جدار هناك، أبيض كنقاء سريرتهم، ناصع وضّاء كالهدف الذي وضعوه نصب أعينهم، ويسعون لتحقيقه مهما تكبَّدوا من عناءٍ ولاقوا من مصاعب: إعادة إعمار الجامع الأموي الكبير في حلب، هذا الجامع الذي أسقط المجرمون مئذنته في الرابع والعشرين من نيسان عام (2013م)، وسرقوا منبره التاريخي في الثالث عشر من أيار من العام نفسه، هذا المنبر الذي صنعه نجار  من أبناء حلب يُعرف بـ(الأختريني) لا يضاهيه أحد في براعته، أمره الملك العادل نور الدين الزنكي أن يصنع منبراً للمسجد الأقصى، إذ كان يأمل أن يفتح بيت المقدس، وقال له: «اجتهد أن تأتي به على النعت المهندم والنحت المهندس». وهكذا كان، إذ أبدع النجّار الحلبي الماهر صنعه. ولما حدث حريق في حلب أتى على منبر الجامع الأموي الكبير، جيء بالمنبر ونُصِب فيه، فما كان من الأختريني إلَّا أنْ صنع محراباً آخر توءماً للأول حُمِل بعد نحو عشرين عاماً من حلب، ونُصِب في القدس في المسجد الأقصى.  

حلب الغالية، يا مَنْ خرجتِ من تحت الرماد… يا من تَصِلين الطرب بالطرب، يا أرض العمل النافع، يا روضة يطيب بها المقام، على الرغم من كل ما ألمّ بها. أنتِ المشرقة دائماً… الفتيّة أبداً. وردتك بعد سنين عجاف مرّت بك فوجدتك جنّة عدن، وكنت للغادرين نار سعير.

 

(العدد 687 – كانون الأول 2020) pdf.