من يمعن النَّظر في الدراسات والأبحاث الأدبية المعاصرة، التي صدرت على مدى نصف قرن وأكثر، يخرج بانطباع راسخ، أنَّ هذه الدراسات لم تتعامل مع الأدب في عصوره المختلفة، برؤية شمولية، تنطلق من اعتبار أنَّ الأدب والحياة صنوان، وأنَّ الأدب – شئنا أم أبينا – ثمرة، من ثمرات التفاعل المهادن أو المشاكس بين الأديب والمجتمع، وبعيداً عن هذا التفاعل يذوي الأدب، ويختنق الأدباء.
ولمسوغات جمالية، وفنية، وأخلاقية – اجتماعية، وقعت عشرات الدراسات والأبحاث في مطبّ الانتقائية، فلم تقدّم لنا صورة شاملة، وإحاطة وافية، تستوفي كلّ تيّارات الأدب التي كانت سائدة في عصر من العصور، بل اهتمّت بجوانب، وأسقطت أخرى، وأبرزت أسماء، وأغفلت سواها، ورفعت من قيمة اتجاهات، وحطّت من شأن أخرى.
وفي ظلِّ نظرة متحيّزة كهذه، لفنون الأدب الرسمي، وما دار في فلكه، وأدب الأعلام، وما يسمّى أدب القمم، كان الغبن من نصيب التيارات، والظواهر التي نشأت في بيئة العامّة، وترسّبت في أرضية القاع الاجتماعي، ولتقريب هذه الصورة إلى الأذهان، نأخذ من بين عصور الأدب، العصر العبّاسي الذي كان يمور بكلّ ما هو جديد في الحياة والأدب، ولكنّ ذلك الموقف المتعالي نفسه، حال دون اكتشاف ما كان يجري في ذلك العصر، ويأخذنا العجب حين نقارن بين موقف مجموعتين من الأدباء، قديماً وحديثاً، في رصد مثل هذه الظواهر الشعبية، فقد كان الجاحظ، والهمذانيّ، والحريريّ، والثعالبيّ، والتوحيديّ، أكثر معاصرة من بعض أدبائنا المُحدَثين، وأوسع أفقاً، وأعمق رؤية، في عنايتهم بتيارات عصرهم، وعبّروا بذلك عن نزعة شعبية، وواقعية في اهتمامهم بأدب الفئات الدُّنيا، وبرصدهم الظواهر المهمَّشة، وهذا ما نلمسه في مؤلفاتهم، التي تعدّ مصادر لا غنى عنها لكلِّ قارئ وباحث وأديب.