السيّد وزير الثقافة الأستاذ محمد الأحمد راعي هذه الندوة
السيّدات والسادة الحضور رسميينَ وشعبيين .. أُرَحِّبُ بكم أجملَ ترحيبٍ وبعد:
فرُبَّما أيدني الكثيرونَ منكم في تسميةِ الترجمةِ من لغةٍ إلى أخرى: مُغامرةً؛ وهي مُغامرةٌ في أرضٍ حرامٍ حين تتصدّى لنقلِ الآثار الأدبيّة – ولا سيّما الشعر – من لُغاتِها الأم إلى لغاتٍ أخرى.
ذلكَ أنّ المترجِمَ مهما بدا مُتعاطِفاً مع النص الأصل، ومُحبّاً له، ومعجباً به، فإنهُ – شاءَ أم أبى – سيستعيضُ عنه بذكاءٍ ومهارةٍ بنصٍ آخر يمكنُ أن يندرِجَ ضمنَ نظامِ أدبِهِ الخاص، أو أدبِ أمّتِهِ، هذا لو تجاوزنا صعوباتِ الترجمةِ الجمّةَ، وعثراتِها الغريبةَ. لقد قرأتم وسمعتم – ولا ريب – عشراتِ الآراءِ التي تصفُ عملية الترجمة ومتطلّباتها وصعوباتِها؛ فَرُبَّ رأيٍ ينطلقُ من لغةِ الإنسانِ الأصليّة، ويرى “أنّهُ لا يمكن لأكثر من لغة واحدة فقط (اللغة التي نعيش ونفكّر بها) أن تكونَ حيّةً تماماً بالنسبةِ إلينا”، وهو ما يعني أننا نقنعُ أنفسنا بمعرفةٍ شكليّةٍ وأدبيّةٍ للغاتٍ أخرى، آملين أن تتمكّن الترجمةُ من تجاوزِ هذهِ العتبةِ، وأن تجعلَ نفسَها ساكناً من سُكّان الثقافةِ الأجنبيّة – لكنّ هذا الأمَلَ وهمي؛ وهو رأيٌ يتسلّحُ بأن العمل الإبداعي الأدبي هو نتاجُ لغةٍ مختلفةٍ تعبّرُ عن حقائق المخيّلة – وينغرسُ بصورةٍ راسخةٍ تماماً في العُنصر غير القابل للترجمة! وينطلقُ هذا الرأيُ أيضاً من أن “المخيّلة عندما تعملُ بكامِلِ طاقتها – سواء في القصيدةِ الغنائية أم المسرحيّة أم الرواية – فإنها تنظّمُ المادة بدرجةٍ من الدّقّةِ والشموليّة بحيث لا تستطيعُ أيُّ ترجمة أن تضاهيها أبداً”.
وربَّ رأيٍ يقولُ: “إن ثمة غشاوةً غريبةً في التفكير والكلام والشعور لا بُدّ أن تحولَ بين المترجم والنص الأصلي، فقد تلعب لغتُهُ الأصلية دور الضاغط عليه مهما كانت رؤيته واضحة للنص الأصل … ولهذا وذاك رأى بعضهم أنَّ ترجمةَ الأدبِ، والشعرِ بالتحديد أشبَهُ بالقُبْلةِ من وراء الزجاج .. وأطلقَ آخرونَ تلك العبارة الشهيرة: “أيّها المترجم .. أيّها الخائن، “وأدّى كل ذلك إلى وضع متطلّباتٍ غايةٍ في الصعوبة على المترجمين والترجمات ..
ومع ذلك ظلَّ المترجِمُ – الذي كثيراً ما يُغفَلُ دورُهُ ويُنسى اسمُهُ – رمزاً للغيريّةِ والإيثار، والبعد عن الذاتيّة .. فهو الوحيدُ من بين الكتّاب الذي قَدْ يفرح حين تقولُ له: لم نَرَكَ في هذا العمل الذي ترجمتَ، بل رأينا الشاعِرَ أو الروائيَّ … أو القاصَّ .. إنّه لا يأنَفُ من تقليدِ أسلوبِ المبدعِ الذي يُترجم له؛ ويخضَعُ سعيداً لأسلوبِ الكاتب الذي يترجم له، فيحترمُ نسيجَ النصِّ الأصلي وأنساقَهُ التعبيريّةَ ووحدتَهُ، ويتركُ لحركةِ النص الأصليّة وإيقاعاتِهِ الذاتيّة أن تأخذه معها بعيداً.
إننا في هذهِ الندوة التي تقيمُها الهيئةُ العامةُ السوريةُ للكتاب بالتعاونِ مع جامعةِ دمشق واتحاد الكتّاب العرب واتحاد الناشرين السوريين، والتي شرّفنا الأستاذ محمد الأحمد وزيرُ الثقافة برعايتها، إنما نقدّمُ اعترافاً بعظمةِ دور المترجمينَ؛ واعترافاً بفضلهم؛ فهم من جَعَلَ جسمَ الأدبِ العالمي جسماً واحداً منذ هوميروس حتى اللحظة، وهم من أسهمَ إسهاماً جليلاً في إبقاءِ لغاتِ شعوبهم حيّة وقابلة للتغيّر والتطوّر؛ لقد حَلُمَ غوتّه منذ زمنٍ بعيد بما أسماه “الأدب العالمي”، ورأى أنّه أدبٌ سيكون للأمم جميعِها صوتٌ فيه، وهذا ما أسهم المترجمونَ في تحقيقِهِ منذ بدأت الترجمات الأولى بالظهور؛ ألم يقم أنطوان جَالان بذلك حين نَقَلَ “ألف ليلة وليلة” إلى الفرنسية بين عامي ١٧٠٤ – ١٧١٧، ثمّ نُقلت إلى لغاتِ شعوب أوروبّا كلها، وأثّرت في ثقافاتِها وآدابِها وفنونها بصورةٍ منقطعةِ النظير؟
ألمْ يقم بذلك عبدُ الله بن المقفّع – قبل ذلك بأكثر من ألفِ سنة – حين نَقَلَ عن الفارسيّة “كليلة ودمنة” و”الأدب الصغير” و”الأدب الكبير” وغيرَها؟ فأسهَمَ بخلقِ أدبٍ جديدٍ عندنا وعند سوانا من الشعوب؟!
ألم يقم بذلك حُبيشٌ الأعسم الذي عاشَ في مرحلةِ المأمون، فنَقَلَ عشراتِ الكُتب عن اليونانيّة ومنها كتبُ جالينوس كلُّها، وهو ما حماها من الاندثار، وأغنى بها مكتباتنا، ومن ثمّ مكتباتِ أوربّا؟
ألم يقم بذلك: يوحنّا البطريق، والحجّاجُ بن مطر، وقسطا بن لوقا البعلبكي، وعبد المسيح بن ناعمة الحمصي، وحُنين بن إسحاق … وآخرون…
ألا يقوم بذلك هذهِ النّخبةُ التي سيتفضلُ وزير الثقافة بتكريمها اليوم…..